فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال الشنقيطي:
قوله تعالى: {أَنْ جاءه الأَعْمَى}.
عبر الله تعالى عن هذا الصحابي الجليل الذي هو عبد الله بن أم مكتوم بلقب يكرهه الناس مع أنه قال: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَاب}.
والجواب هو ما نبه عليه بعض العلماء من أن السر في التعبير عنه بلفظ الأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كالم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لو كان يرى ما هو مشتغل به مع صناديد الكفار لما قطع كلامه. اهـ.

.تفسير الآيات (11- 23):

قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان العتاب الذي هو من شأن الأحباب ملوحاً بالنهي عن الإعراض عمن وقع العتاب عليه، وكل من كان حاله كحاله والتشاغل عن راغب، صرح به فقال: {كلا} أي لا تفعل ذلك أصلاً فإن الأمر في القضاء والقدر ليس على ما يظن العباد ولا هو جار على الأسباب التي تعرفونها بل هو من وراء علومهم على حكم تدق عن أفكارهم وفهومهم: ثم علل ذلك فقال مؤكداً لإنكارهم ذلك، {إنها} أي القرآن، ولعله أنث الضمير باعتبار ما تلي عليهم في ذلك المجلس من الآيات أو السور {تذكرة} أي تذكرهم تذكيراً عظيماً بما إن تأملوه شاهدوه في أنفسهم وفي الآفاق، ليس فيه شيء إلا وهم يعرفونه لو أقبلوا بكليتهم عليه، فما على المذكر بها غير البلاغ، فمن أقبل عليه فأهلاً وسهلاً، ومن أعرض فبعداً له وسحقاً.
ولما كان سبحانه قد خلق للإنسان عقلاً واختياراً، ويسر أمر القرآن في الحفظ والفهم لمن أقبل عليه، سبب عن ذلك قوله: {فمن شاء} أي ذكره بعد مشيئة الله تعالى كما تقدم تقييده في القرآن غير مرة {ذكره} أي حفظ القرآن كله وتذكر ما فيه من الوعظ من غير تكرير ولا معالجة تحوج إلى الإعراض عن بعض المقبلين الراغبين، وللإشارة إلى حفظه كله ذكر الضمير.
ولما كان التقدير: حال كون القرآن مثبتاً أو حال كون الذاكر له مثبتاً، قال واصفاً لتذكرة مبيناً لشرفها بتشريف ظرفها وظرف ظرفها {في صحف} أي أشياء يكتب فيها من الورق وغيره {مكرمة} أي مكررة التكريم ومعظمة في السماء والأرض في كل أمة وكل ملة {مرفوعة} أي عليه المقدار بإعلاء كل أحد لاسيما من له الأمر كله {مطهرة} أي منزهة عن أيدي أهل السفول وعن قولهم إنها شعر أو سحر ونحو ذلك، وعلق أيضاً بمثبت بالفتح أو الكسر على اختلاف المعنىين- قوله مبيناً شرف ذلك الظرف لذلك الظرف إشارة إلى نهاية الشرف للمظروف: {بأيدي سفرة} أي كتبة يظهرون الكتابة بما فيها من الأخبار الغريبة والأحكام العلية في كل حال، فإن كان ما تعلق به الجار بالفتح فهو حقيقة في أنهم ملائكة يكتبونه من اللوح المحفوظ، أو يكون جمع سافر إما بمعنى الكتاب أو المسافر أي القطع للمسافة أو السفير الذي هو المصلح لأنهم سفراء بين الله وأنبيائه، وبهم يصلح أمر الدين والدنيا، وإن كان بالكسر فهو مجاز لأن من أقبل على كتابة الذكر يكون مهذباً في الحال أو في المآل في الغالب، وتركيب سفر للكشف {كرام} أي ينطوون على معالي الأخلاق مع أنهم أعزاء على الله {بررة} أي أتقياء في أعلى مراتب التقوى والكرم وأعزها وأوسعها.
ولما كان الوصف بهذه الأوصاف العالية للكتبة الذين أيديهم ظرف للصحف التي هي ظرف للتذكرة للتنبيه على علو المكتوب وجلالة مقداره وعظمة آثاره وظهور ذلك لمن تدبره وتأمله حق تأمله وأنعم نظره، عقبه بقوله ناعيا علي من لم يقبل بكليته عليه داعياً بأعظم شدائد الدنيا التي هي القتل في صيغة الخبر لأنه أبلغ: {قتل الإنسان} أي هذا النوع الآنس بنفسه الناسي لربه المتكبر على غيره المعجب بشمائله التي أبدعها له خالقه، حصل قتله بلعنه وطرده وفرغ منه بأيسر سعي وأسهله من كل من يصح ذلك منه لأنه أسرع شيء إلى الفساد لأنه مبني على النقائص إلا من عصم الله {ما أكفره} أي ما أشد تغطيته للحق وجحده له وعناده فيه لإنكاره البعث وإشراكه بربه وغير ذلك من أمره، فهو دعاء عليه بأشنع دعاء وتعجيب من إفراطه في ستر محاسن القرآن التي لا تخفى على أحد ودلائله على القيامة وكل شيء لا يسع أحدًّا التغبير في وجه شيء منها، وهذا الدعاء على وجازته يدل على سخط عظيم وذم بليغ وهو وإن كان في مخصوص فالعبرة بعمومه في كل من كفر نعمة الله، روي أنها نزلت في عتبة بن أبي لهب غاضب أباه فأسلم ثم استصلحه أبوه وأعطاء مالاً وجهزه إلى الشام فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كافر برب النجم إذا هوى، وأفحش في غير هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم أبعث عليه كلباً من كلابك» فلما انتهى إلى مكان من الطريق فيه الأسد ذكر الدعاء فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حياً فجعلوه في وسط الرفقة والمتاع والرحال فأقبل الأسد إلى الرحال ووثب فإذا هو فوقه فمزقه فكان أبوه يندبه ويبكي عليه وقال: ما قال محمد شيئاً إلا كان، ومع ذلك فما نفعه ما عرف من ذلك، فسبحان من بيده القلوب يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وكل ذلك من هدايته وإضلاله شاهد بأن له الحمد.
ولما كان اكثر انصباب التعجيب منه ناظراً إلى تكذيبه بالساعة لأجل ظهور أدلتها في القرآن جدًّا ولأنه توالت في هذه السور إقامة الأدلة عليها مما لا مزيد عليه، شرع في إقامة الديل عليها بآية الأنفس من ابتداء الخلق في أسلوب مبين لخسته وحقارته وأن من ألبسه أثواب الشرف بعد تلك الخسة والحقارة جدير منه بالشكر لا بالكفر، فقال منبهاً له بالسؤال: {من أي شيء} والاستفهام للتقرير مع التحقير {خلقه} ثم أجاب إشارة إلى أن الجواب واضح لا يحتاج فيه إلى وقفة أصلاً فقال مبيناً حقارته: {من نطفة} أي ماء يسير جدًّا لا من غيره {خلقه} أي أوجده مقدراً على ما هو عليه من التخطيط {فقدره} أي هيأه لما يصلح من الأعضاء الظاهرة والباطنة والأشكال والأطوار إلى أن صلح لذلك ثم جعله في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن ثم الرحم ثم المشيمة، أو هي على ما قال أهل التشريح ثلاثة أغشية: أحدها المشيمة تتصل بسرة الجنين تمده بالغذاء، والثاني يقبل بوله، والثالث يقبل البخارات التي تصعد منه بمنزلة العرق والوسخ في أبدان الكاملين، وأعطاه قدرة لما أراده منه {ثم} أي بعد انتهاء المدة {السبيل} أي الأكمل في العموم والاتساع والوضوح لا غيره، وهو مخرجه من بطن أمه وطريقه إلى الجنة أو النار {يسره} أي سهل له أمره في خروجه بأن فتح فم الرحم وألهمه أن ينتكس، وذلل له سبيل الخير والشر، وجعل له عقلاً يقوده إلى ما يسر له منهما، وفيه إيماء إلى أن الدنيا دار الممر، والمقصد غيرها وهو الأخرى التي تدل عليها الدنيا، ولذلك عقبه بقوله عاداً الموت من النعم لأنه لو دام الإنسان حياً مع ما يصل إليه من الضغف والخوف لكان في غاية البشاعة والشماتة لأعدائه والمساءة لأوليائه على أن الموت سبب الحياة الأبدية: {ثم} أي بعد أمور قدرها سبحانه من أجل وتقلبات {أماته} وأشار إلى إيجاب المبادرة إلى التجهيز بالفاء المعقبة في قوله: {فأقبره} أي جعل له قبراً فغيبه فيه وأمر بدفنه تكرمة له وصيانة عن السباع، والإقبار جعلك للميت قبراً وإعطاؤك القتيل لأهله ليدفنوه، والمعنى الامتنان بأنه جعل للأنسان موضعاً يصلح لدفنه وجعله بعد الموت بحيث يتمكن من دفنه، ولو شاء لجعله يتفتت مع النتن ونحوه مما يمنع من قربانه، أو جعله بحيث يتهاون به فلا يدفن كبقية الحيوانات، فقد عرف بهذا أن أول الإنسان نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة، فما شرفه بالعلم إلا الذي أبدعه وصوره، وذلك موجب لأن يشكره لا أن يكفره.
ولما كانت مدة البرزخ طويلة، وكان البعث أمراً محققاً غير معلوم الوقت بالعين بغيره تعالى، عبر عن المعاني الثلاثة بأداتي التراخي والتحقق فقال: {ثم إذا شاء} أي إنشاره {أنشره} أي بعثه من قبره كما كان في دنياه بزيادة أنه على تركيب قوي لا يتهيأ فيه فراق الروح الجسد.
ولما كان إخباره بأنه مع الذي يسر له السبيل قد يفهم أنه لا يعمل إلا بما يرضيه، نفى ذلك على سبيل الردع فقال: {كلا} أي ليرتدع هذا الإنسان الذي عرف أن هذه حالاته أولاً وآخراً واثناءً ومخرجاً تارة من مخرج البول وأخرى من مخرج الحيض ومقبراً، ولينزجر وليعرف، نفسه بالذلة والخسة والحاجة والعجز، وليعرف ربه سبحانه بالعزة والعظمة والكبرياء والفناء والقدرة على تشريف الحقير وتحقير الشريف، وبأنه سبحانه لا يلزمه شيء فلا يلزم من تعريف هذا الإنسان السبيل وتمييزه له لأنه لا يفعل إلا ما لا يعاتب عليه، فإنه لا يكون من الإنسان وغيره إلا ما يريده، وتارة يريد هداه، وتارة يريد ضلاله، فقد يأمر بما لا يريده ويريد ما لا يأمر به ولا يرضاه، ولذلك قال مستأنفاً نفي ما أفهمه بتيسيره للسبيل من أن الإنسان يفعل جميع ما أمره به الله الذي يسر له السبيل: {لما يقض} أي يفعل الإنسان فعلاً نافذاً ماضياً {ما أمره} أي به الله كله من غير تقصير ما من حين تكليفه إلى حين إقباره بل من حين وجد آدم عليه الصلاة والسلام إلى حين نزول هذه الآية وإلى آخر الدهر، لأن الإنسان مبني على النقصان والإله منزه التنزه الأكمل، وما قدروا الله حق قدره، وأيضاً الإنسان الذي هو النوع لم يعمل بأسره بحيث لم يشذ منه فرد جميع ما أمره، بل أغلب الجنس عصاه وكذب بالساعة التي هي حكمة الوجود، وإن صدق بها بعضهم كان تصديقه بها تكذيباً لأنه يعتقد أشياء منها على خلاف ما هي عليه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)}
ثم قال: {كَلاَّ} وهو ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله.
قال الحسن: لما تلا جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات عاد وجهه، كأنما أسف الرماد فيه ينتظر ماذا يحكم الله عليه، فلما قال: {كَلاَّ} سرى منه، أي لا تفعل مثل ذلك، وقد بينا نحن أن ذلك محمول على ترك الأولى.
ثم قال: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}.
وفيه سؤالان:
الأول:
قوله: {إِنَّهَا} ضمير المؤنث، وقوله: {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} [عبس: 12] ضمير المذكر، والضميران عائدان إلى شيء واحد، فكيف القول فيه؟ الجواب: وفيه وجهان الأول: أن قوله: {إِنَّهَا} ضمير المؤنث، قال مقاتل: يعني آيات القرآن، وقال الكلبي: يعني هذه السورة وهو قول الأخفش والضمير في قوله: {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} عائد إلى التذكرة أيضاً، لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ الثاني: قال صاحب (النظم): {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} يعني به القرآن والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة أخرجه على لفظ التذكرة، ولو ذكَّره لجاز كما قال في موضع آخر: {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} [المدثر: 54] والدليل على أن قوله: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} المراد به القرآن قوله: {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ}.
السؤال الثاني:
كيف اتصال هذه الآية بما قبلها؟ الجواب: من وجهين الأول: كأنه قيل: هذا التأديب الذي أوحيته إليك وعرفته لك في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا أثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة الثاني: كأنه قيل: هذا القرآن قد بلغ في العظمة إلى هذا الحد العظيم، فأي حاجة به إلى أن يقبله هؤلاء الكفار، فسواء قبلوه أو لم يقبلوه فلا تلتفت إليهم ولا تشغل قلبك بهم، وإياك وأن تعرض عمن آمن به تطييباً لقلب أرباب الدنيا.
{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)}
اعلم أنه تعالى وصف تلك التذكرة بأمرين الأول:
قوله: {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} أي هذه تذكرة بينة ظاهرة بحيث لو أرادوا فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها لقدروا عليه والثاني: قوله: {فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} أي تلك التذكرة معدة في هذه الصحف المكرمة، والمراد من ذلك تعظيم حال القرآن والتنويه بذكره والمعنى أن هذه التذكرة مثبتة في صحف، والمراد من الصحف قولان: الأول: أنها صحف منتسخة من اللوح مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار مطهر عن أيدي الشياطين، أو المراد مطهرة بسبب أنها لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة.
{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)}.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
أن الله تعالى وصف الملائكة بثلاثة أنواع من الصفات:
أولها: أنهم سفرة وفيه قولان: الأول: قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل وقتادة: هم الكتبة من الملائكة، قال الزجاج: السفرة الكتبة واحدها سافر مثل كتبة وكاتب، وإنما قيل للكتبة: سفرة وللكاتب سافر، لأن معناه أنه الذي يبين الشيء ويوضحه يقال: سفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها القول الثاني: وهو اختيار الفراء أن السفرة هاهنا هم الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله وبين رسله، واحدها سافر، والعرب تقول: سفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم، فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله وتأديته، كالسفير الذي يصلح به بين القوم، وأنشدوا:
وما أدع السفارة بين قومي ** وما أمشى بغش إن مشيت

واعلم أن أصل السفارة من الكشف، والكاتب إنما يسمى سافراً لأنه يكشف، والسفير إنما سمي سفيراً أيضاً لأنه يكشف، وهؤلاء الملائكة لما كانوا وسايط بين الله وبين البشر في البيان والهداية والعلم، لا جرم سموا سفرة.
الصفة الثانية لهؤلاء الملائكة: أنهم {كِرَامٍ} قال مقاتل: كرام على ربهم، وقال عطاء: يريد أنهم يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا مع زوجته للجماع وعند قضاء الحاجة.
الصفة الثانية: أنهم: {بَرَرَةٍ} قال مقاتل: مطيعين، وبررة جمع بار، قال الفراء: لا يقولون فعلة للجمع إلا والواحد منه فاعل مثل كافر وكفرة، وفاجر وفجرة القول الثاني: في تفسير الصحف: أنها هي صحف الأنبياء لقوله: {إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى} [الأعلى: 18] يعني أن هذه التذكرة مثبتة في صحف الأنبياء المتقدمين، والسفرة الكرام البررة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل هم القراء.
المسألة الثانية:
قوله تعالى: {مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ} يقتضي أن طهارة تلك الصحف إنما حصلت بأيدي هؤلاء السفرة، فقال القفال في تقريره: لما كان لا يمسها إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهير إليها لطهارة من يسمها.
{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى لما بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين، عجب عباده المؤمنين من ذلك، فكأنه قيل: وأي سبب في هذا العجب والترفع مع أن أوله نطفة قذوة وآخره جيفة مذرة، وفيها بين الوقتين حمال عذرة، فلا جرم ذكر تعالى ما يصلح أن يكون علاجاً لعجبهم، وما يصلح أن يكون علاجاً لكفرهم، فإن خلقة الإنسان تصلح لأن يستدل بها على وجود الصانع، ولأن يستدل بها على القول بالبعث والحشر والنشر.
المسألة الثانية:
قال المفسرون: نزلت الآية في عتبة بن أبي لهب، وقال آخرون: المراد بالإنسان الذين أقبل الرسول عليهم وترك ابن أم مكتوم بسببهم، وقال آخرون: بل المراد ذم كل غني ترفع على فقير بسبب الغنى والفقر، والذي يدل على ذلك وجوه أحدها: أنه تعالى ذمهم لترفعهم فوجب أن يعم الحكم بسبب عموم العلة وثانيها: أنه تعالى زيف طريقتهم بسبب حقارة حال الإنسان في الابتداء والانتهاء على ما قال: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ... ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 19- 21] وعموم هذا الزجر يقتضي عموم الحكم وثالثها: وهو أن حمل اللفظ على هذا الوجه أكثر فائدة، واللفظ محتمل له فوجب حمله عليه.
المسألة الثالثة:
قوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان} دعاء عليه وهي من أشنع دعواتهم، لأن القتل غاية شدائد الدنيا وما أكفره تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله، فقوله: {قُتِلَ الإنسان} تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب، وقوله: {مَا أَكْفَرَهُ} تنبيه على أنواع القبائح والمنكرات، فإن قيل الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز والقادر على الكل كيف يليق به ذاك؟ والتعجب أيضاً إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء، فالعالم بالكل كيف يليق به ذاك؟ الجواب: أن ذلك ورد على أسلوب كلام العرب وتحقيقة ما ذكرنا أنه تعالى بين أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب لأجل أنهم أتوا بأعظم أنواع القبائح، واعلم أن لكل محدث ثلاث مراتب أوله ووسطه وآخره، وأنه تعالى ذكر هذه المراتب الثلاثة للإنسان.
أما المرتبة الأولى: فهي قوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)}
وهو استفهام وغرضه زيادة التقرير في التحقير.
{مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)}
ثم أجاب عن ذلك الاستفهام بقوله: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ} ولا شك أن النطفة شيء حقير مهين والغرض منه أن من كان أصله (من) مثل هذا الشيء الحقير، فالنكير والتجبر لا يكون لائقاً به.
ثم قال: {فَقَدَّرَهُ}.
وفيه وجوه: أحدها قال الفراء: قدره أطواراً نطفة ثم علقة إلى آخر خلقه وذكراً أو أنثى وسعيداً أو شقياً وثانيها: قال الزجاج: المعنى قدره على الاستواء كما قال: {أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف: 37]، وثالثها: يحتمل أن يكون المراد وقدر كل عضو في الكمية والكيفية بالقدر اللائق بمصلحته، ونظيره قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2].
وأما المرتبة الثانية: وهي المرتبة المتوسطة فهي قوله تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)}.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
نصب {السبيل} بإضمار {يسره}، وفسره بـ: {يسره}.
المسألة الثانية:
ذكروا في تفسيره أقوالاً أحدها: قال بعضهم: المراد تسهيل خروجه من بطن أمه، قالوا: إنه كان رأس المولود في بطن أمه من فوق ورجلاه من تحت، فإذا جاء وقت الخروج انقلب، فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام إلا الله، ومما يؤكد هذا التأويل أن خروجه حياً من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب وثانيها: قال أبو مسلم: المراد من هذه الآية، هو المراد من قوله: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] فهو يتناول التمييز بين كل خير وشر يتعلق بالدنيا، وبين كل خير وشر يتعلق بالدين أي جعلناه متمكناً من سلوك سبيل الخير والشر، والتيسير يدخل فيه الإقدار والتعريف والعقل وبعثة الأنبياء، وإنزال الكتب وثالثها: أن هذا مخصوص بأمر الدين، لأن لفظ السبيل مشعر بأن المقصود أحوال الدنيا (لا) أمور تحصل في الآخرة.
وأما المرتبة الثانية: وهي المرتبة الأخيرة، فهي قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)}
واعلم أن هذه المرتبة الثالثة مشتملة أيضاً على ثلاث مراتب، الإماتة، والإقبار، والإنشار، أما الإماتة فقد ذكرنا منافعها في هذا الكتاب، ولا شك أنها هي الواسطة بين حال التكليف والمجازاة، وأما الإقبار فقال الفراء: جعله الله مقبوراً ولم يجعله ممن يلقى للطير والسباع، لأن القبر مما أكرم به المسلم قال: ولم يقل فقبره، لأن القابر هو الدافن بيده.
والمقبر هو الله تعالى، يقال قبر الميت إذا دفنه وأقبر الميت، إذا أمر غيره بأن يجعله في القبر، والعرب تقول: بترت ذنب البعير، والله أبتره وعضبت قرن الثور، والله أعضبه، وطردت فلاناً عني، والله أطرده.
أي صيره طريداً، وقوله تعالى: {ثم إذا شاء أنشره} المراد منه الإحياء (و) البعث، وإنما قال: إذا شاء إشعاراً بأن وقته غير معلوم لنا، فتقديمه وتأخيره موكول إلى مشيئة الله تعالى، وأما سائر الأحوال المذكورة قبل ذلك فإنه يعلم أوقاتها من بعض الوجوه، إذا الموت وإن لم يعلم الإنسان وقته ففي الجملة يعلم أنه لا يتجاوز فيه إلا حدًّا معلوماً.
{كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ}.
واعلم أن قوله: {كلا} ردع للإنسان عن تكبره وترفعه، أو عن كفره وإصراره على إنكار التوحيد، وعلى إنكاره البعث والحشر والنشر، وفي قوله: {لما يقض ما أمره} وجوه أحدها: قال مجاهد لا يقضي أحد جميع ما كان مفروضاً عليه أبداً، وهو إشارة إلى أن الإنسان لا ينفك عن تقصير ألبتة، وهذا التفسير عندي فيه نظر، لأن قوله: {لما يقض} الضمير فيه عائد إلى المذكور السابق، وهو الإنسان في قوله: {قتل الإنسان ما أكفره} [عبس: 17] وليس المراد من الإنسان هاهنا جميع الناس بل الإنسان الكافر فقوله: {لما يقض} كيف يمكن حمله على جميع الناس وثانيها: أن يكون المعنى أن الإنسان المترفع المتكبر لم يقض ما أمر به من ترك التكبر، إذ المعنى أن ذلك الإنسان الكافر لما يقض ما أمر به من التأمل في دلائل الله، والتدبر في عجائب خلقه وبينات حكمته وثالثها: قال الأستاذ أبو بكر بن فورك: كلا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر بل أمره بما لم يقض له به. اهـ.